الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتدل هذه الآية على جواز اطلاق الشيء على اللّه لأنه اسم للموجود، ولا يطلق على العدم، قال في بدء الأمالي:
وقال المتكلمون: (والشيء عندنا هو الموجود) وهذه الآية المدنية الأولى من هذه السورة، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} على يد رسلهم ولسانه من اليهود والنصارى الذين منهم من ينكر صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ورسالته في كتبهم هم أنفسهم {يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ} وقد كذبوا بما قالوه من إنكارهم نعته فيها، خصّ تعالى ذكر الأنبياء لأن الناس أشد معرفة بهم من غيرهم ومع هذا بأنهم يعرفون محمدا بما وضح من وصفه في كتبهم أكثر معرفة من أبنائهم الذين يشاهدونهم صباح مساء، هذا قول اللّه ولا أصدق من اللّه قولا، وقد حدث به رسول اللّه ولا أصدق منه حديثا، قال عبد اللّه بن سلام إلى عمر بن الخطاب حين أسلم: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، فقال عمر وكيف ذلك، قال أشهد أنه رسول اللّه حقّا بإخبار اللّه تعالى في كتابه وعلى لسان رسله، ولا أصدق من هذا الإخبار، أما ابني ففي مظاهر الحال ابني ولكن لا أدري ما تصنع النساء إن النساء المتزوجات قد يحملن من غير أزواجهن فلا يدري الرجل إلا ان المولود ولد من زوجته التي هي في حجره وفراشه، فينسب إليه وقد يلحقه الشك في ذلك، أما محمد صلّى اللّه عليه وسلم فلا مرية ولا شبهة أنه رسول اللّه حقا لما رأينا من أوصافه وعلاماته في التوراة ومعجزاته في القرآن.ولهذا فإن الجاحدين نبوته هم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} وباعوها بالكذب والإنكار {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ 20} به ولا يوفقون للإيمان باللّه الذي أرسله جزاء جحودهم له عتوا وعنادا.انتهت الآية المدنية وهي كما ذكرنا في غيرها من كونها كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها، قال تعالى منددا من نسب إليه ما لا يليق بذاته المقدسة وأنكر ما جاء به على لسان رسله {وَمَنْ أَظْلَمُ} لا أحد أشد ظلما وأكثر بغيا وأعظم بهتا {مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وزعم أن له شريكا أو أنه لم يرسل محمدا أو لم ينزل كتابا عليه {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} المنزلة عليه ومعجزاته التي أظهرها اللّه على يديه وكذلك سائر الأنبياء، فلا أقبح ولا أشنع ولا أفظع ممن هذه سجيته، ولا أخسر منه صفقة ولا أشد عنادا ولا اخطأ فعلا ولا أكبر كفرا ولا أكثر بغيا، لأنهم كذبوا على اللّه باتخاذ الشريك وكذبوه بإرسال الرسل، وكذبوا الرسل بأنهم رسل اللّه وأنه لم ينزل عليهم كتابا، هؤلاء المشئومون أكثر الناس ظلما واللّه تعالى يقول: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 21} بالنجاة من العذاب ولا يفوزون بخير ولا ينجحون بأمل، واذكر يا أكرم الرسل لقومك وغيرهم {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} العابدون والمعبودون والمقترحون والمكذبون والجاحدون والمنكرون {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} في الموقف يوم القيامة {أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 22} في الدنيا أنها تشفع لكم وعبدتموها من دون اللّه الملائكة وغيرهم من الإنسان والكواكب والحيوان والجماد فيسكتون بدليل حرف التراخي المبين بقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} معذرتهم التي يعتذرون بها لأن الفتنة هي التجربة، ولما كان سؤالهم هذا تجربة لإظهار ما في قلوبهم من الكفر، وسمى جوابهم فتنة لأنهم كانوا مفتونين في محبة أوثانهم التي يعبدونها من دون اللّه في الدنيا كما يفتتن العاشق بمعشوقته، فإذا أصابته محنة من أجلها تبرأ منها بعد قضاء وطره، ومثلهم في الدنيا كمثل بعض الأكراد والحوارنه الذين يغرون الفتيات والنساء ويخطفونهنّ ويفترسونهنّ حالا بسائق الشهوة الخبيثة، حتى إذا أدركتهم الحكومة وحبسوا وعذّبوا أنكروا إغواءهنّ ليتخلصوا من الجزاء الشاق، وما هو بنافعهم، وهؤلاء الكفرة كذلك يوم القيامة حين يشاهدون العذاب والمحنة التي تحل بهم من أجل معبوديهم، يتبرأون منهم ما يكون جوابهم بعد السكوت الطويل المستفاد من أداة التراخي {إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ 23} وحين يصرون على إنكارهم هذا ويجحدون إشراكهم تشهد عليهم جوارحهم، ولا يقال هنا كيف يجوز تعذيب الشاهد لأن شهادة الأعضاء بمثابة الاعتراف عما اقترفت في الدنيا، والاعتراف لا يكون مسقطا للعقوبة، فإن القاتل إذا اعترف لا يعفى من القصاص، وكذلك الشارب والزاني لا يعفوان من الحد إذا اعترفا، تدبر.فيا أكرم الرسل {انْظُرْ} إلى هؤلاء {كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} بإنكارهم الشرك الذي كانوا يتفاخرون به في الدنيا ويحاربون الرسل بهم {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ 24} في الدنيا من وجود معبود غير اللّه إذ لم يروا شيئا أو أحدا يناصرهم أو يعترف لهم بالعبادة راجع الآية 29 من سورة يونس فيما يتعلق في هذا البحث {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تتلو القرآن كأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية ابن خلف والحارث بن عامر، ويقولون لمن معهم النضر بن الحارث ما يقول محمد؟ فيقول لهم ماأدري أراه يحرك لسانه بأساطير الأولين كما كنت أحدثكم عنه، فقال أبو سفيان إني لأرى بعض ما يقوله حقّا، فقال أبو جهل كلا لا تقرّ له بشيء الموت أهون علينا من إقرارك بشيء مما يقوله محمد، فأنزل الله: {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية كثيفة {أَنْ يَفْقَهُوهُ} لئلا يعوه ويفهموه فيعلموه {وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا} ثقلا شديدا وذلك أن اللّه تعالى بشرح قلوب بعض عباده لتقبل الهدى والإيمان والرشد ويضيق بعضها حتى لا تعي شيئا من ذلك ولا تسمعه فيبقى على ضلاله {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} لذلك السبب {حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ} فيما أنزل عليك من لدنا يا سيد الرسل {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا} الذي تتلوه علينا ليس بقرآن وليس من عند اللّه وما هو {إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ 25} أكاذيبهم وخرافاتهم جمع أسطورة أي أكذوبة وخرافة {وَهُمْ يَنْهَوْنَ} يمنعون الناس {عَنْهُ} أي القرآن فلا يتركونهم يسمعونه ويحذرونهم من الإيمان به والتصديق بما أنزل عليه {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} يتباعدون بأنفسهم عن سماعه وعن المنزل عليه لئلا يراهم قومهم فيقلدونهم {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} بهذا النبي والنأي {وَما يَشْعُرُونَ 26} بأن الوبال يخصهم وحدهم ويضاعف عليهم لصدهم أنفسهم وغيرهم من سماع الحق واتباع الهدى وسلوك طريق الرشد. .مطلب لا يصح نزول الآية في أبي طالب وفي حمل الأوزار والآية العظيمة التي نزلت في حق الرسول صلّى اللّه عليه وسلم: نزلت هذه الآية في الكفرة المذكورين أعلاه وهي عامة في كل من يتباعد عن الحق وينهى من يتقرب منه، أما ما روي أن رءوس الكفر قالوا لأبي طالب بعد أن تذاكروا معه بشأن محمد وتعديه على آلهتهم خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا نقتله، وانه قال لهم ما أنصفتموني أدفع إليكم ابني لتقتلوه وأربي لكم ابنكم، وانه كان من جملتهم وكان ينهاهم عن أذاه ويتباعد عن الإيمان به، فلا يصح أن يكون سببا للنزول، لأن أبا طالب توفى نصف شوال السنة العاشرة من البعثة كما أشرنا إليه في الآية 56 من القصص المارة في ج 1 أي قبل نزول هذه الآية بكثير، وكذلك ما روي أن حضرة الرسول دعاه إلى الإيمان فقال لولا أن تعيرني قريش لأفررت بها عينك، ولكن أذب عنك، وقال في ذلك أبياتا منها:فنزلت هذه الآية لما ذكرنا وان الرواية قد وقعت منه لأن له مواقف هامة في الذب عن الرسول والوقوف بوجوه صناديد قريش من أجله، وكانت تهاب محمدا لمهابته لديهم ولقد صدق رحمه اللّه في قوله لأن قريشا لم توقع فيه أذى إلا بعد موته ولكن هذا كله قبل نزول هذه الآية حتى انه مرة كلف ابن أخيه ذات يوم أن يصفح عن التصريح بدعوته بإلحاح من عظماء قريش عليه لأنهم عرضوا عليه أمورا كثيرة من أمور الدنيا على أن يكف عن سب آلهتهم ولم يفعل فقال يا عم واللّه لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره اللّه تعالى، وهذه القصة مفصلة في سيرة ابن هشام، على أن هذه الآية واللائي قبلها واردة في ذم المشركين، فلا يناسب المقام ذكر النهي عن أذيته صلّى اللّه عليه وسلم، قال تعالى: {وَلَوْ تَرى} بأكمل الرسل {إِذْ وُقِفُوا} هؤلاء المشركون الذين ينهون الناس عن الإيمان بك ويتباعدون عنه أيضا فلو رأيتهم حين يشرفون {عَلَى النَّارِ} لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه وموقفا عجيبا عظم بلاء {فَقالُوا} في ذلك الموقف الرهيب والمشهد العام {يا لَيْتَنا نُرَدُّ} إلى الدنيا فنصدق هذا الرسول وما جاء به من الله: {وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا} ورسله بعد ردنا إلى الدنيا أبدا {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 27} باللّه وكتابه ورسوله.ونصب الفعلين بأن مضمرة على جواب التمني أو بإبدال الواو من الفاء وجاز فيهما الرفع عطفّا على نرد وعليه فتكون الأفعال الثلاثة داخلة في التمني فيكونون تمنوا الرد إلى الدنيا وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين أو بقطع ولا نكذب ونكون عن فعل نرد وعليه يكون المعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فرد اللّه تعالى عليهم بقوله ليس الأمر كما ذكروا {بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} من الكفر والجحود أي إنما قالوا هذا القول لظهور كفرهم الذي نطقت به جوارحهم ولم يغن عنهم سكوتهم ولا إخفاء فظائعهم.لا إنهم قالوه تائبين.ومع هذا لو أجيب تمنيهم لما وفوا بوعدهم {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} أولا في الدنيا ولفعلوا فيها ما فعلوه قبلا {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 28} في قولهم هذا بأنهم إذا رجعوا إلى الدنيا يؤمنون كلا لا يؤمنون البتة لسابق شقائهم بحسب خبث طوييتهم {وَقالُوا} هؤلاء الكفرة {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا} لا حياة بعدها كما يقول محمد وضمير هي يعود إلى الحياة ويجوز عوده على المتأخر رتبة ولفظا قال المتنبي: لأن ما بعده خبر له وكذلك يجوز إذا كان ضمير الشان وقد منعه الجمهور لاشتراطه في خبره أن يكون جملة والأحسن عود الضمير إلى ما هو في الذهن أي ما هي الحياة إلا حياتنا الدنيا لا غير {وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 29} مرة ثانية كما كانوا يقولون قبل لا محالة فلا فائدة من إجابة طلبهم على تقدير إمكانها {وَلَوْ تَرى} يا سيد الرسل {إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ} للحكم والقضاء حيث يعرضون عليه يوم الجزاء {قالَ} اللّه تعالى لهم {أَلَيْسَ هذا} البعث بعد الموت الذي كنتم تجحدونه في الدنيا وتكذبون رسلكم إذ يخبرونكم به وتنكرون كلامي المنزل بذلك {بِالْحَقِّ} الذي لا مرية فيه {قالُوا} إذ لم يروا بدا من الإقرار {بَلى وَرَبِّنا} إنه الحق لا شبهة ولا شك فيه {قالَ} تعالى بعد أن شهدوا على أنفسهم {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ 30} بذلك وتنكرونه إذ لا فائدة لكم الآن أأقررتم أم كذبتم، ثم يقول الحق تبارك وتعالى على ملأ الأشهاد: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ} غبنوا وخابوا وفاتهم الثواب المؤدي إلى الجنة المنعم به على المصدقين وتلبسوا بالعقاب الموصل إلى النار إذ تمادوا في الدنيا على تكذيبهم ولم يحسوا بأنفسهم {حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فجاة على حين غرة وغفلة في وقت لا يعلمه إلا اللّه وسميت القيامة ساعة لأنها تباغت الناس بسرعة بحيث لا يستطيع القائم أن يقعد ولا القاعد أن يقوم {قالُوا} منكروا الساعة {يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا} قصرنا من العمل الصالح {فِيها} في الدنيا وفاتنا كسب هذه الصفقة إذ بعنا ما يستوجب الرضا بالسخط.روى الطبري بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم في قوله يا حسرتنا إلخ قال: يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون يا حسرتنا {وَهُمْ} والحال أنهم {يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ} أي أثقال ذنوبهم وهذا الحمل إما معنوي بحيث يتخيّلون جزاءها الثقيل فهم كالحاملين له، وإما أن تتجسم لهم فيحملونها راجع الآية 18 من سورة فاطر في ج 1.جاء في الأخبار والآثار: يتبع الميت ثلاث ماله ويفارقه عند خروج روحه، وأهله ويفارقونه عند ما يوارونه بالتراب، وعمله يبقى معه إلى يوم القيامة، فإن كان خيرا أوصله إلى الجنّة وإن كان شرا أدخله النار.ولهذا يقول اللّه تعالى لأهل الشر {أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ 31} بئس الحمل الذي يحملونه لما فيه من الخزي والعار {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور لأن اللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع واللهو الميل عن الجد والهزل، وهذا رد لقولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا} إلخ يعني أن حياة الكافرين أمثالكم لعب لا تعقبه منفعة أما حياة المؤمنين فهي تفكير وعبادة فتعقب عليهم منفعتها في الآخرة خيرا ولهذا قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ} من الدنيا الفانية لأنها باقية {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} اللّه ويؤمنون برسله وكتبه {أَفَلا تَعْقِلُونَ 32} هذا أيها الكفرة فتعلمون أن الدنيا شر الذين يجحدون لقاء اللّه في الآخرة، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ} يا حبيبي {إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} فيك ما لا يليق بحضرتك من التكذيب والسخرية {فَإِنَّهُمْ} بعملهم هذا {لا يُكَذِّبُونَكَ} وإنما يكذبون الذي أرسلك إليهم لأن تكذيبك تكذيب للحضرة الكريمة وانك صادق أمين مبجّل عند ربك {وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 33} وهذا غاية في الظلم لأن تكذيب اللّه أعظم من كل ظلم وهو نهاية في الضلال.وهذه الآية من أعظم آيات القرآن في التبكيت على الكفرة وفيها تسلية لحضرة الرسول بما يعتريه من الحزن على جحودهم آيات اللّه وإنكارهم رسالته إليهم لأن اللّه تعالى يقول له لا تأس بما يقولون لك لأن هذا الذي يصمونك به هو تكذيب للذي أرسلك وأنزل عليك الكتاب الذي جئنهم به فبعد أن يتعدى تكذيبهم للحضرة الإلهية المقدسة ولم يقتصروا فيه عليك فقد بلغوا الذروة القصوى في الكفر، فاعرض عنهم واللّه يتولى أمرك فيهم.نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق حين قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فليس أحد يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل واللّه إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة اللائي أقررنا لهم بها فإذا صدقناهم بالنبوة أيضا فماذا يكون لسائر قريش فأنزل اللّه هذه الآية.أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن أبا جهل قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلم:إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلّى اللّه عليه وسلم ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به من الدين المخالف لدين آبائنا وإذعانك أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على ما كان منا في هذه الدنيا.وإنما سلى اللّه رسوله في هذه الآية لأنهم مع اعتقادهم صدقه على ما علمت من قول أبي جهل المار ذكره لا يؤمنون بما جاءهم به حسدا، ويضاهي هذه الآية ما أنزله اللّه بحق غيرهم في قوله عزّ قوله: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية 14 من سورة النمل المارة في ج 1، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} من أقوامهم وأتباعهم {فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا} ألا تصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك {وَأُوذُوا} أيضا بأكثر مما أوذيت به وانتظروا وعد اللّه بنصرتهم عليهم وبقوا متحملين أذاهم {حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا} فلك أسوة بهم فثابر على الصبر حتى يأتي الوقت المقدر لذلك {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ} التي وعد بها عباده المخلصين المنوه بها بقوله عزّ قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ} الآية 172 و173 من الصافات الآتية، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية 51 من سورة المؤمن الآتية أيضا، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} الآية 21 من سورة المجادلة في ج 3 والآية 103 من سورة يونس المارة فراجعها، ولا خلف لوعد اللّه كيف وهو يأمر عباده بالوفاء ويعيب الناكثين والمخلفين، إلا أن لوعده أجلا لا يتخطاه {وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ 34} أخبارهم التي قصصناها عليك من قبل وظفرهم بعد صبرهم فما عليك إلا الانتظار لهذا الظفر القادم {وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ} عن الإيمان بك واستعظمت ذلك ولم تركن إلى الصبر فافعل ما بدا لك {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} سريا ومنفذا من تحتها بدليل الظرفية فانفذ فيه {أَوْ سُلَّمًا} تصعد عليه {فِي السَّماءِ} فاصعد إليها، وفي هنا بمعنى إلى لأن حروف الجر تخلف بعضها والسلّم يذكر ويؤنث.
|